لعبة الشطرنج الدولية في السودان..لعبة استراتيجية لتشكيل المستقبل!!..وائل عبدالخالق مالك.
بورتسودان /المرسى نيوز
إذا تأملنا الصورة الكبيرة للأحداث في السودان، نجد أن المجتمع الدولي يخوض لعبة شطرنج استراتيجية طويلة المدى. كل حركة دولية – مثل العقوبات الأخيرة على أبو عاقلة كيكل – تخدم رؤية نهائية تهدف إلى إعادة تشكيل هيكل القوة في البلاد لضمان مصالحها الخاصة..
التكتيك الأول المستخدم هو سلخ الأذرع حيث تمثل العقوبات الأوروبية ضد قائد درع السودان أبو عاقلة كيكل مؤشر على هذا الأمر كضربة تكتيكية مباشرة. هذه العقوبات ليست مجرد عقوبة فردية، بل هي أداة من أدوات المجتمع الدولي تهدف إلى تحويل قادة القوى المسلحة الداعمة والمساندة للجيش السوداني إلى منبوذين دوليين. وهي رسالة تحذيرية واضحة لكل من لا يتعاون مع الأجندة الدولية..
ورغم أن تجميد الأصول وحظر السفر قد يبدوان إجراءين رمزيين، إلا أنهما يشكلان تهديداً حقيقياً بقطع الإمدادات المالية واللوجستية والدعم السياسي عن هذه القوات وهنا ليس المستهدف قوات كيكل في حد ذاتها، وانما رسالة مستترة لكل قوى الاسناد للجيش السوداني. كما أن تراكم التقارير والعقوبات الدولية يخلق سجلاً إجرامياً ليس للأفراد فقط، بل لمؤسسة الجيش السوداني ككل التي تحالفت مع هذه القوى. وهكذا تبدأ المرحلة التمهيدية لقص الأجنحة..
التكتيك الثاني في هذه الاستراتيجية هو إضعاف الهيكل العسكري للدولة، وعبره تريد الرباعية الدولية بشكل جوهري إضعاف الطرف المنافس لمخططها وهو القوات المسلحة السودانية، مستهدفة تفكيك التحالف التاريخي بين الجيش السوداني وقوى الإسناد المسلحة مثل درع السودان والمقاومة الشعبية وغيرها. هذا التحالف شكّل العمود الفقري لانتصارات الجيش في الحرب الحالية..
تهدف هذه المرحلة إلى إضعاف الجيش وهيكله التقليدي، عبر خلق فراغ في السلطة مصمم بعناية ليتم ملؤه لاحقاً بقوى مدنية مختارة. ومن هنا تأتي شروط اللعبة الجديدة حيث ستكون هذه القوى المدنية – التي سترث سلطة محدودة أصلاً – ممتنة للدعم الدولي الذي أوصلها إلى السلطة. كما ستكون ضعيفة عسكرياً وأمنياً، مما يدفعها إلى الاعتماد على الحماية والدعم الدولي المستمر. وهذا الوضع يمهد بطبيعة الحال لقبولها سياسات اقتصادية وسياسية تخدم مصالح الجهات الداعمة، مقابل ضمان استمرار هذا الدعم..
إذا نجحت هذه الاستراتيجية، فستؤدي إلى عودة توازن الضعف الذي يمهد لدولة ضعيفة مركزياً، تحكمها حكومة مدنية بلا سيطرة حقيقية على الأمن، وجيش تم تطويعه وفصله عن أذرعه القوية. هذا الوضع يسهل إدارة الصراعات والنفوذ وتحقيق المصالح من قبل الأطراف الخارجية..
وفي هذا السيناريو، لا بد من حدوث تفكك أمني مجتمعي، وإضعاف للجيش المركزي، مما يفتح الباب لصعود نفوذ قوى مسلحة أخرى، أبرزها مليشيا الجنجويد الإرهابية وحلفائها من الحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز الحلو وبقية الحركات. واللافت أن مليشيا الجنجويد ظلت تعمل كمخلب قط للاتحاد الأوروبي والإمارات، التي يبدو أنها استطاعت توجيه الرباعية الدولية بأكملها..
لا يمكن لأي عاقل يملك الحد الأدنى من الحس الإنساني أن يرفض إيقاف الحرب أو يطالب باستمرارها. لكن أي مشروع لوقف إطلاق النار لا يحافظ على سيادة الدولة السودانية ويحقق مصالحها يعتبر خسارة فعلية لنا كسودانيين..
المشروع الحالي لا يمثل سيادتنا ولا مصالحنا، فالقرارات المصيرية تعد في الخارج دون مشاركتنا الفاعلة. وهذا مؤشر خطير على ما سيأتي لاحقاً، حيث من المتوقع أن جميع قرارات الدولة في المجالات الاقتصادية والسياسية الخارجية والأمنية ستتخذ في العواصم الخارجية، وبما يخدم مصالحها هي وليس مصالحنا. وبهذا تصبح الحكومة وكيلة تنفيذ أكثر منها حكومة مستقلة..
هذا التحليل ليس نظرية مؤامرة، بل هو فهم واقعي للسياسات الجيوسياسية. فالدول الكبرى لا تتدخل بدوافع إنسانية بحتة. عملية قص أجنحة الجيش لا تتم لأن هذه الدول تريد الأفضل للشعب السوداني، بل لأن جيشاً قوياً ومستقلاً يصعب إدارته ولا يخدم مصالحها. إنها تفضل التعامل مع حكومة مدنية ضعيفة يمكن توجيهها عبر المساعدات والضغوط الدولية، بدلاً من مؤسسة عسكرية صلبة قد تقف في وجه مطالبها..
الخطوة الأولى لإفشال هذه الاستراتيجية تتمثل في إنشاء محاكم وطنية خاصة ذات مصداقية لمحاكمة المتهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. مبدأ التكامل هذا – أي المحاكمة محلياً – هو أفضل وسيلة لسحب البساط من تحت أقدام المجتمع الدولي، ومنعه من استخدام الملفات الإنسانية والقانونية وتطويعها سياسياً. وهو السبيل الأمثل للحفاظ على السيادة الوطنية..
هذه المعركة ليست مجرد صراع بين مدنيين وعسكريين بالمعنى المجرد. إنها معركة مصيرية على هوية الدولة المستقبلية وسيادتها. والعقوبات مثل تلك المفروضة على كيكل هي أحد الأسلحة الحديثة في هذه المعركة، حيث يستخدم القانون الدولي والإعلام كأدوات لتحقيق أهداف سياسية..
مستقبل السودان سيتحدد بقدرة مؤسسات الدولة وقواه الوطنية على فهم هذه اللعبة الدولية والتعامل معها بذكاء واستراتيجية واعية، وليس مجرد ردود أفعال عاطفية..

المرسى_نيوز_الأحداث في لحظتها.