الرأي والتحليل

كيف صنع المدنيون والعسكريون لحظة التدخل الأولى؟!.. (1-7)

بورتسودان/المرسى نيوز


مقاربة نقدية في كتاب “الجيش السوداني والسياسة” للكاتب عصام ميرغني/ وائل عبدالخالق مالك

عندما نقرأ تاريخ السياسة السودانية منذ الاستقلال نميل إلى تفسير تدخل الجيش في الحكم كأنه فعل مباغت أو نتيجة لمزاج عسكري يبحث عن السلطة. لكن هذا التفسير السهل يخفي طبقات أعمق من التعقيد.
فالجيش لم يهبط على المشهد السياسي من خارج التاريخ ولم يقتحم بوابة الحكم كما تفعل الانقلابات في المخيلة الشعبية.
ما حدث كان أكثر تدرجاً وتراكماً، وفي جزء كبير منه كان انعكاساً لفشل الطبقة المدنية في بناء فضاء سياسي مستقر قبل أن تطلب من الجيش احترام حدود ذلك الفضاء.

هذا ما يحاول كتاب عصام الدين ميرغني “الجيش السوداني والسياسة” تفكيكه، وهو تفكيك مهم لأنه يتعامل مع السؤال التأسيسي كيف بدأ كل شيء؟
فإذا لم نفهم لحظة التأسيس سنفشل في فهم كل ما تبعها من انقلابات وصراعات ووعود انتقالية لم تكتمل.

وهنا تكمن قيمة المقاربة النقدية فهي ليست محاولة لإدانة طرف على حساب آخر بل محاولة لقراءة العلاقة بين المدني والعسكري كنتاج مشترك لا كخطأ منفرد.

هناك روايتان شائعتان في الوعي السوداني، الأولى تتهم الجيش بأنه ظل يتربص بالسلطة منذ 1956. والثانية تقول إن السياسيين هم الذين سلّموا الحكم للعسكريين عندما ضاقت بهم الخيارات. والحقيقة كما تشير الوقائع التاريخية أن كلا الروايتين صحيحتان جزئياً وخاطئتان جزئياً. فالجيش لم يكن مؤسسة منفعلة بالكامل لكنه أيضاً لم يتحرك من فراغ. فما حدث كان تفاعلاً اضطرابياً بين طرفين يفتقدان إلى تقاليد سياسية واضحة.

بين الأعوام 1956 و1958 كان السودان يملك نظاماً دستورياً مؤقتاً، وثلاث حكومات متعاقبة خلال أقل من عامين، وأحزاباً سياسية مشدودة بولاءات طائفية ومناطقية، وبرلماناً بلا كتلة مستقرة، وصراعاً سياسياً مفتوحاً على كل الاحتمالات. وفي المقابل كان الجيش الذي لم يمضِ على سودنته سنوات كثيرة يحمل إرثاً بريطانياً يركز على الانضباط المهني لكنه لا يقدّم تصوراً واضحاً للعلاقة بين المؤسسة العسكرية والسلطة السياسية في دولة حديثة الاستقلال.

وهذا الفراغ التأسيسي أنتج أخطر نقطة في تاريخ السودان حيث هناك تداخل غير مضبوط بين سلطتين لا تعرفان حدود بعضهما.

أكبر خرافة في تاريخ السياسة السودانية هي تصوير انقلاب 17 نوفمبر كأنه مبادرة عسكرية صرفة. الوقائع تكذب ذلك، فعبد الله خليل رئيس الوزراء آنذاك عن حزب الأمة سلّم السلطة للجيش اختياراً لا اضطراراً وباتفاق واضح مع القيادة العامة للجيش. وكان الهدف تكتيكياً في نظره وهو إزاحة خصومه في البرلمان والحفاظ على موقعه السياسي. لكن هذا التكتيك أنتج أثراً استراتيجياً مدمراً حيث فتح الباب للجيش ليدخل السياسة لأول مرة بغطاء مدني كامل.

ومنذ تلك اللحظة، أصبح التدخل العسكري خياراً مطروحاً لتقويم المسار السياسي كلما وقع انسداد. رئيس الوزراء المدني هنا لم يضعف الديمقراطية فقط بل كسر ظهرها.

بمجرد أن تولى الجيش السلطة تغير شيء مهم داخل المؤسسة العسكرية. الضباط اكتشفوا أنهم قادرون على إدارة الدولة وأن الطبقة المدنية ليست أكثر حنكة ولا خبرة منهم. ومع مرور الوقت تطور هذا الشعور من مجرد استجابة لطلب مدني إلى قناعة وطنية لدى بعض الضباط بأن بقاء البلاد في يد السياسيين مخاطرة.

هكذا تشكلت داخل الجيش شبكات تفكير سياسية حقيقية. وفي الستينات بدأت تظهر مجموعات عسكرية منظمة لديها رؤى فكرية —يسارية أو قومية أو إسلامية— تهيئ نفسها للحظة التغيير القادمة. لذلك لم يكن انقلابا 1969 و1989 حادثتين منفصلتين بل امتداداً لنفس الفكرة بأن الجيش لاعب لا مجرد مؤسسة تنفيذية.

من الإنصاف الإشارة إلى أن دولاً أخرى واجهت السيناريو نفسه مثل غانا، نيجيريا، إثيوبيا، وحتى مصر. جميعها شهدت تدخلات عسكرية في سياق هشاشة المؤسسات المدنية بعد الاستقلال. فالتجربة السودانية ليست شاذة لكنها ليست قدراً محتوماً أيضاً.

الفرق بين السودان وبعض الدول التي تجاوزت هذه الحلقة هو أن بناء المؤسسات تأخر والدستور لم يستقر، والطبقة السياسية ظلت تتعامل مع الجيش كحل جاهز للصراعات. وهذا جعل التدخل يتكرر ويتجذر ويتحوّل إلى نمط سياسي لا مجرد حادثة.

الدرس الذي يرفض الجميع الاعتراف به هو أن المدنيون يلقون اللوم على الجيش لأنه انقلب عليهم. والعسكريون يلقون اللوم على المدنيين لأنهم فشلوا في الحكم. لكن الحقيقة التي لا يريد أي طرف مواجهتها هي أن العلاقة بين المدني والعسكري في السودان لم تُبنَ أصلاً على قواعد صحيحة، حيث لا دستور دائم ولا تقاليد ديمقراطية راسخة ولا مؤسسة عسكرية محصنة من التسييس. وما بدأ كتسليم مؤقت في 1958 أصبح وصفة جاهزة يعاد استخدامها كل عقد تقريباً. المشكلة ليست في الحدث بل في القالب الذي ينتجه.

إذا أردنا مستقبلاً مختلفاً فلا يكفي أن نطالب الجيش بالعودة إلى الثكنات، ولا أن نطالب المدنيين بتحسين أدائهم.
الواجب هو إعادة صياغة العلاقة بين الطرفين من جديد، منذ الجذور وبعقد سياسي واضح لا يتحمل التأويل. فالجيش دخل السياسة عبر باب فتحه المدنيون أنفسهم ثم وسّعه العسكريون. وتحوّل مع الزمن إلى مدخل ثابت في كل أزمة وطنية. وما لم يُغلق هذا الباب بإجماع وطني حقيقي، سيظل التاريخ يعيد نفسه فقط بأسماء جديدة.

المرسى _نيوز_الأحداث في لحظتها

المرسى نيوز

تعد "المرسى نيوز" من المنصات الإخبارية الإلكترونية الرائدة التي تقدم تغطية شاملة لمجموعة واسعة من الأخبار المحلية والعالمية. تسعى هذه المنصة إلى تزويد القراء بمحتوى متميز يعكس الأحداث الجارية بموضوعية ودقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى